الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال سعيد بن المسيب: لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتى قال في دعائه: بصلوات أبي داوُد إلاّ فتحت الأبواب.ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل: خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلاّ والله يعبد فيها. {وَتَمَاثِيلَ} أي صور، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين؛ لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم. {وَجِفَانٍ} أي قصاع، واحدها جفنة {كالجواب} كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي يجمع، واحدها جابية.قال الأعشى ميمون بن قيس:
أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال: أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا سهل السرّاج قال: سمعت الحسن يقول: {وجفان كالجواب} مثل حياض الإبل، ويقال: إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه. {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} ثابتات لا يحوّلن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن، ومنه قيل للجبال: رواسي {اعملوا} أي وقلنا: اعملوا {آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} مجازه: اعملوا بطاعة الله يا آل داوُد شكرًا له على نعَمه، و {شُكْرًا} في محل المصدر. {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} أرسل حمزة الياء وفتحها الباقون. قال القرظي: الشكر: تقوى الله والعمل بطاعته.وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال: حدثنا الحصر بن أبان قال: حدّثنا سيار قال: حدّثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت ثابتًا يقول: كان داوُد نبي الله عليه السلام قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داوُد قائم يصلي، فعمهم الله تعالى في هذه الآية {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}. {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} قال المفسرون: كان سليمان عليه السلام يتحرز في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يُدخل فيه طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدوّ ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلاّ نبتت في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول لها: لأيّ شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع فإن كانت نبتت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتب، فبينما هو يُصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟. قالت: الخروبة. قال: ولأيّ شيء نبتّ؟ قالت: لخراب هذا المسجد. فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهكِ هلاكي، وخراب بيت المقدس. فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال: اللهم عمِّ على الجن موتي حتى يعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء وإنهم يعلمون ما في غد ثم دخل المحراب فقام يُصلي متكئًا على عصاه فمات.قال ابن زيد: قال سليمان لملك الموت: إذا أُمرت بي فاعلمني. قال: فأتاه فقال: يا سُليمان قد أُمرتُ بك، وقد بقيت لك سويعة.فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحًا من قوارير ليس له باب، فقام يُصلي واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متّكىء على عصاه.وفي رواية أُخرى: أنّ سليمان عليه السلام قال ذات يوم لأصحابه: قد آتاني الله من الملك ما ترون، وما مرّ عليّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد أحببت أن يكون لي يوم واحد يصفو لي إلى الليل، ولا أغتم فيه ولكن ذلك اليوم غدًا.فلما كان من الغد دخل قصرًا له وأمر بإغلاق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع ذلك اليوم شيئًا يسوؤه، ثم أخذ عصاه بيده، وصعد فوق قصره واتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب من جوانب قصره، فقال: السلام عليك يا سليمان. فقال: وعليك السلام، كيف دخلت هذا القصر، وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البوّاب والحُجّاب؟ أما هِبتني حيث دخلت قصري بغير إذني؟ فقال: أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بوّاب ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن قال سُليمان: فمن أذن لك في دخوله؟ قال: ربه فارتعد سُليمان وعلم أنه ملك الموت، فقال له: أنت ملك الموت؟ قال: نعم، قال: فبمّ جئت؟.قال: جئت لأقبض روحك. قال: يا ملك الموت هذا يوم أردت أن يصفو لي ولا أسمع فيه ما يغمني. قال: يا سُليمان، إنك أردت يومًا يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتم فيه، ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا فارضَ بقضاء ربك فإنه لا مرد له قال: فامضِ لما أُمرتَ به فقبض ملك الموت روحه وهو متكىء على عصاه. قالوا: وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلاه أينما كان، فكان للمحراب كُوَى بين يديه وخلفه، وكان الشيطان الذي يُريد أن يخرج يقول: ألست جليدًا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أُولئك فمر ولم يسمع صوت سُليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق فنظر إلى سليمان وقد سقط ميتًا، فخرج فأخبر الناس أن سُليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا مذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يومًا وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات من سنة، وكانت الجن تعمل بين يديه ينظرون إليه ويحسبون أنه حيّ ولا ينظرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك.وهي في قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولًا كاملًا، فأيقن الناس أنّ الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سُليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له. ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة: لو كنتِ تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنتِ تشربين الشراب سقيناكِ أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليكِ الطين والماء. فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم ترَ إلى الطين الذي يكون فوق الخشب فهو ممّا يأتيها به الشياطين تشكرًا لها، فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} وهي الأرضة، ويُقال لها: القادح أيضًا وهي دويبة تأكل العيدان. {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي عصاه، فأصلها من نسأت الغنم إذا زجرتها وسقتها، وقال طرفة: أي سقتها، وهمزها أكثر القراء، وترك همزها أبو عمرو وأهل المدينة، وهما لغتان، وقال الشاعر في الهمز: وقال الآخرون في ترك الهمز: قوله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين} و {أَن} في محل الرفع؛ لأن معنى الكلام: فلما خر تبين وانكشف أنْ لو كان الجن أي ظهر أمرهم، وفي قراءة ابن مسعود أنْ لو كان الجن يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين، وقيل: {أَن} في موضع نصب أي علمت وأيقنت الجن أنْ لو كانوا يعلمون.وقال أهل التاريخ: كان عمر سليمان عليه السلام ثلاثًا وخمسين سنة وكان مدة ملكه أربعين سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه والله أعلم.قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مُسيك الغطيفي قال: قال رجل: يا رسول الله، أخبرني عن سبأ ما كان؛ رجلًا أو امرأة، أو أرضًا أو جبلًا أو واديًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ليست بأرض ولا امرأة ولكنه كان رجلًا من العرب ولد له عشرة من الولد، فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة؛ فأما الذين تيامنوا، فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير».فقال رجل: وما أنمار؟ قال: «الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان».والإجراء وترك الإجراء فيه سائغ، وقد قرىء بهما جميعًا فالإجراء على أنه اسم رجل معروف، وترك الإجراء على أنه اسم قبيلة نحو هذه تميم واختاره أبو عبيد لقوله: {فِي مَسْكَنِهِمْ} واختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والنخعي: {مسكنهم} بفتح الكاف على الواحد، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر الكاف على الواحد، الباقون: {مَسَاكِنِهِمْ} جمع. {آيَةٌ} دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا، ثم فسرها فقال: {جَنَّتَانِ} أي هي جنتان: بستانان {عَن يَمِينٍ} من أتاهما {وَشِمَالٍ} وعن شماله {كُلُواْ} وقيل لهم: كلوا {مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ} على ما أنعم عليكم، وإلى ها هنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال: {بَلْدَةٌ} أي هذه بلدة أو بلدتكم بلدة {طَيِّبَةٌ} ليست بسبخة. قال ابن زيد: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة قط ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القمل والدواب فما هو إلاّ أنْ ينظروا لى بيوتهم فتموت الدواب، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفواكه ولم يتناول منها شيئًا بيده فذلك قوله سبحانه: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} الهواء، {وَرَبٌّ غَفُورٌ} الخطأ كثير العطاء.قوله تعالى: {فَأَعْرَضُواْ} قال وهب: بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًا فدعوهم إلى الله، وذكروهم نعَمه عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة. فقولوا لربكم الذي تزعمون فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع، فذلك قوله عز وجل: {فَأَعْرَضُواْ}. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} والعرم: السد والمسناة التي تحبس الماء واحدتها عرمة، وأصلها من العرامة وهي الشدة والقوة.وقال ابن عباس ووهب وغيرهما: كان هذا السد يسقي جنتيهم، وكان فيما ذُكر بنته بلقيس وذلك أنها لما ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها فنزلته، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت، فقالوا: لترجِعنَّ أو لنقتلنّكِ. فقالت: إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول.قالوا: فإنا نطيعكِ فإنا لم نجد فينا خيرًا بعدكِ. جاءت فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبوابًا ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدة أنهارهم، فلما جاء المطر اجتمع إليه ماء الشجر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة وأمرت بالبعر فأُلقي فيها، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار وترسل البعر في الماء حتى خرجت جميعًا معًا فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سُليمان ما كان.وبقوا على ذلك بعدها، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الباب الأسفل ولا ينفد الماء، حتى يئوب الماء من السنة المقبلة. فلما طغوا وكفروا، سلط الله عليهم جرذًا يسمى الخَلَد فنقب من أسفله، فغرّق الماء جناتهم وخرب أرضهم.وقال وهب: وكانوا فيما يزعمون يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم ذلك فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلاّ ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان وما أراد الله بهم من التفريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى وهنته للسيل وهم لا يعلمون ذلك. فلما جاء السيل وجد خللًا فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على أموالهم فغرّقها ودفن بيوتَهم الرملُ، وفرّقوا ومزقوا حتى صاروا مثلًا عند العرب فقالوا: تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم}.وقيل: العرم هو المطر الشديد من العرامة وهي التمرّد والعصيان. {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قراءة العامة بالتنوين، وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالإضافة، وهما متقاربتان كقول العرب: في بستان فلان أعنابُ كرم وأعنابٌ كرمٌ، فتضيف أحيانًا الأعناب إلى الكرم؛ لأنه منه، وتنون أحيانًا الأعناب، ثم يترجم بالكرم عنها؛ إذ كانت الأعناب ثمر الكرم.والأكل: الثمر، والخمط: الأراك في قول أكثر المفسرين، وقيل: كل شجرة ذات شوك، وقيل: شجرة الغضا، وقيل: هو كل نبت قد أخذ طعمًا من المرارة حتى لا يمكن أكله، {وَأَثْلٍ} وهو الطرفاء، عن ابن عباس، وقيل: هو شجر شبيه بالطرفاء إلاّ أنه أعظم منه، وقال الحسن: الإثل الخشب. قتادة: ضرب من الخشب، وقيل: هو السمر. أبو عبيدة: هو النضار. {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} قال قتادة: بينما شجر القوم من خير الشجر إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم. قال الكلبي: فكانوا يستظلون بالشجر ويأكلون البربر وثمر السدر وأبوا أن يجيبوا الرُسل {ذَلِكَ} الذي جعلنا بهم، {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} أي بكفرهم، ومحل ذلك نصب بوقوع المجازاة عليه، تقديره جزيناهم ذلك بما كفروا: {وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} قرأ أهل الكوفة بالنون وكسر الزاي ونصب الراء، واختاره أبو عبيدة قال: لقوله: {جَزَيْنَاهُمْ} ولم يقل: جُوزوا، وقرأ الآخرون بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع الراء، ومعنى الآية: وهل يُجازى مثل هذا الجزاء إلاّ الكفور، وقال مجاهد: يجازي أي يُعاقب. {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي الشام {قُرًى ظَاهِرَةً} أي متواصلة تظهر الثانية من الأُولى لقربها منها. قال الحسن: كان أحدهم يغدوا فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى أُخرى، وكانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار، وكان ما بين اليمن والشام كذلك.وقال ابن عباس: قرئ ظاهرة يعني: قرئ عربيّة بين المدينة والشام. سعيد بن جُبير: هي القرى التي ما بين مأرب والشام. مجاهد: هي السروات، وهب بن منبه: هي قرى صنعاء. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيرًا مقدرًا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، لا ينزلون إلاّ في قرية، ولا يغدون إلاّ في قرية، وقلنا لهم: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} وقت شئتم {آمِنِينَ} لا تخافون عدوًّا ولا جوعًا ولا عطشًا، ولا تحتاجون إلى زاد ولا ماء، فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العافية وقالوا: لو كان جَنْيُ جِنانِنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه. {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد. فجعل الله لهم الإجابة، واختلف القراء في هذه الآية؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {ربنا بعّد} على وجه الدعاء والسؤال من التبعيد، وهي رواية هشام عن قرّاء الشام، وقرأ ابن الحنفية ويعقوب: {رَبُنَا} برفع الباء {بَاعَدَ} بفتح الباء والعين والدال على الخبر، وهي اختيار أبي حاتم، استبعدوا أسفارهم بطرًا منهم وأشرًا، وقرأ الباقون: {رَبَّنَا} بفتح الباء، {بَاعِدْ} بالألف وكسر العين وجزم الدال على الدعاء، ففعل الله ذلك بهم، فقال: {وظلموا أَنفُسَهُمْ} بالكفر والبطر والطغيان، {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} عظة وعبرة يتمثل بهم، {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان.
|